الغير: المحور الأول وجود الغير

الغير: المحور الأول وجود الغير
تأطير إشكالى للمحرر:
على الرغم من أن جذور فلسفة الغير بدأت مع الفلسفة اليونانية الا أنها ظلت حبيسة التناول الأنطولوجي (الوجود)، ولم تتعداه إلى الجانب المعرفي، غير أنها عادت بقوة في العصر الحديث مع الفيلسوف هيجل كرد فعل ضد فلسفة الأنا أو الذات لدى ديكارت، فإذا كان ديكارت قد اعتقد أن الأنا يوجد في استقلال عن الاخر ، فإن الأمر يختلف مع هيجل و سارتر، فيما يؤكد الأول وجود العلاقة بين الأنا والآخر من خلال مفهوم الجدل، يؤكد التاني وجود من خلال مفهوم الخجل. فكيف يتحدد هذا الوجود؟ وما نوع العلاقة التي تقوم بين الأنا والآخر؟


أطروحة ديكارت:
رأينا في درس الشخص كيف أن التصور الديكارتي ركز في بنائه على الشخصية الإنسانية على فعل التفكير، أنا أفكر إذن أنا موجود =COGITO  باعتباره يقينا لا يقبل الشك، وحقيقة  واضحة ومتميزة، ومعنى ذلك أن الأنا أو الذات هي حقيقة مكتفية  بذاتها كذات مفكرة وموجودة وجودا ماديا بعد التفكير بدون أي وساطة، أي أنها، مكذة بذاتها ومنعزلة عن الأخر ومستغنية عنه، وهي بذلك غير قادرة على إثبات الغير كأنا آخر، لأن وجود الذات (الأنا) يتأسس على فعل التفكير (=الوعي) وهو فعل داخلي ليس  في حاجة إلى الغير ، لكن إلى متى تظل الذات تشكل وعيا بذاتها بشكل معزول عن الآخر؟ أليس في وجود الغير ضرورة لتحقيق وجود الذات؟ بمعنى أليس وعي الأنا بذاتها هو وعي بالاخر؟

أطروحة هيجل:
يعتقد هيجل أن وعى الذات لذاتها وللاخر لا يوجد كاملا منذ البداية، وإنما هو وعي يخضع للتشكل والتكون، وذلك من خلال مروره بمرحلتين : في المرحلة الأولى يكون وعي الأنا بذاته وبالاخر وعيا مباشرا، لا يرقى إلى مستوى الحقيقة، بسبب كونه لا يدرك الأخر البشري إلا كموضوع، إضافة إلى انغماسه في الحياة و عدم ارتقائه إلى مستوى التجريد.
بمعنى أن وعي الأنا بذاته وبالآخر لا يكون كاملا منذ البداية إنما يتجه نحو الاكتمال بالتدريج فيصبح حقيقه، إنه يبدا كوعي مباشر الحياة الغريزية، فهو يعي ذاته وعيا بسيطا ويدرك الآخر كمجرد موضوع، لا يختلف عن غيره من موضوعات العالم (أشيائه). إن الأنا في هذه المرحلة لا يعي الأخر كذات مماثلة له، ومختلفة عنه، كذلك الآخر عندما يدرك الأنا فهو يدركه كموضوع ولا يدركه كذات واعية، هكذا فالأنا والآخر يكونان في البداية وعيا غير كامل عن بضها، في المرحلة الثانية من نمو الوعي ، لا تعود الذات تعي نفسها كوجود مباشر وكإنغماس في الحياة، إنما تقدم نفسها أمام الاخر بوصفها تجريدا خالصاوكذلك هو الأمر بالنسبة للوعي الذي يقوم به الأخر تجاه الأنا والذا .
بمعنى ان وعى الأنا بذاته وبالاخر في هذه المرحلة الثانية لا يعود مرتبطا بالمحسوس المباشر، ويسمو عن مستوى الغرائز التى تشير إلى الحياة الحيوانية، اليرقى إلى مستوى تجريدي خالصر ، وهذا الارتقاء في وعي الأنا لذاته وللأخر ينطبق كذلك على وعى للأنا.
هذا الارتقاء في الوعي من مستوى مباشر إلى مستوى مجرد، من مستوى اللايقين إلى مستوى اليقين لا يتم إلا من خلال الصراع الذي يدخل فيه كل من الأنا والآخر، إذ يعمل كل منهما على موت ضده، فالأنا والآخر يجبران بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع الذي يدل على أن كل منهما يخاطر بحياته للحفاظ على حريته. وهذه المخاطرة بالحياة حسب هيجل، هي الدليل على أن وعي الذات لم يعد وعيا مباشرا منغمسا في الحياة، وإنما ارتقى إلى مستوى الاعتراف به كوعي لذاته وكحقيقة.
هذا الصراع بين الأنا والاخر هو من أجل الحياة والموت. ولكن يجب أن لا ينتهى إلى الموت، لأن في ذلك إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، وإنما ينتهي باستسلام أحدهما للأخر.
بمعنى أن العلاقة الصراعية التي تقوم بالضرورة بين الأنا والآخر والتي تستهدف الحياة أو الموت ينبغي أن لا تنتهي إلى الموت، فتفضيل الموت من كلا الطرفين هو إلغاء للحقيقة واليقين الذاتي، فلو مات أحد الطرفين فكيف للطرف الثاني ان يعي ذاته وان يحقق وجوده وحياته، إذ، لا يمكن للأنا أن يعي ذاته وأن يحقق وجوده إلا من خلال الأخر (ضرورة الأخر= الأخر شرط وجود الأنا) إن هذه العلاقة الصراعية الضرورية يجب أن تفضل الحياة، لهذا لا يمكنها إلا أن تنتهي بهذه النهاية وهي وجود وعيين متعارضين: أحدهما وعي مستقل تقوم ماهيته في كونه وجود لذاته، والثاني وعي تابع تقوم ماهيته في كونه وجودا من أجل الأخر(أي ان أحدهما سيد والآخر عبد).

أطروحة سارتر:
يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ، من هنا فالغير هو عنصر مكون للأنا ولا غنى له عنه في وجوده وذلك واضح في قوله : "الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته". . غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشبيئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا اخر يراقبه وينظر إليه حتى يخجله (الخجل) "أنا أخجل من نفسي حين أتبدى للأخر" . هكذا، تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقانيتها فيصبح الغير يهدا المعنى جحيما، وهو ما يعبر عنه سارتر بقوله "الجحيم هم الاخرون.
إن نظرة الغير إلى تشل مقوماتي ، فتعمل على تجميد حركاتي وتسلبنى ارادتي وحريتي. إن نظرة الغير إلي تقلقني لأنها مصحوبة بتقديرات لا يمكن معرفتها، خصوصا التقديرات المرتبطة بأحكام القيمة.
هكذا إدن، فالغير مكون للأنا وضروري لوجوده، وليس مجرد وجود جائز، وهو ما يؤكد عليه سارتر حين يقول "لكي أتوضل إلى الحقيقة كيفما كانت حول ذاتي، لابد ان أمر عبر الأخر (الغير)، إن الاخر لا غنى عنه بوجوده، كما لا غنى لي عنه في معرفتي لنفسي".


جميع الحقوق محفوظة © 2013 باك ديالك تمارين دروس امتحانات