الغير: المحور الثاني معرفة الغير

الغير: المحور الثاني معرفة الغير
تأطير إشكالي:
يتبين مما سبق أن الآخر موجود وجودا ماديا كما توجد الأشياء ، وهو ما تبينه التجربة اليومية المعاشةكما تبين لنا ان وجود الأخر البشري كانا آخر ضروري لوجود الذات (أو الانا)، ذلك ما يعني أن الوجود الإنساني وجود علانقي بيني وبين الآخر، وأن الكينونة الإنسانية الفردية لا يمكن إلا أن تمتد إلى خارج ذاتها، فتنشئ علاقات، بحيث يستحيل ان تكون معزولة، ومن بين هذه العلاقات العلاقة المعرفية. بداية هل معرفة الغير ممكنة؟ تم ما قيمة المعرفة التي يقيمها الأنا حول الأخر؟  وبعبارة أخرى هل يمكن ان يعرف الاخر معرفة دقيقة ؟

أطروحة سارتر:
الغير عند سارتر هو "الانا الذي ليس أنا" أي الأنا المخالف للأنا وباعتباره كذلك، فإن سارتر يفترض ان نوعية العلاقة التي تقوم بينه وبين الأنا تأخذ وجهين هما : الانفصال والتباعد من جهة، والاتصال والتقارب من جهة ثانية. بمعنى أن الغير يتبدّى للأنا كمخالف مغاير، وكمماثل مشابه، فعندما يدرك الأنا الأخر كموضوعأو كما يدرك الموجودات الأخرى، فإنه بذلك يشيّئ الأخر ويحدث مسافة بينه وبين ذلك الأخر، وتكون العلاقة هنا علاقة انفصال، وتكون معرفة الأنا للأخر لا تختلف عن معرفته للأشياء المادية، فالآخر هنا عندما يكون بشريا، أو أنا يُجَدُ من ذاتيته ومن وعيه وحريته وإرادته، ويصبح مجرد موضوعومن هنا ندرك قيمة المعرفة المكونة عن الآخر وحدودها، (فالأنا لا يدرك الغير كأنا مخالف، وإنما كأشياء في مكان. ...
إن بناء معرفة محايدة عن الاخر يتطلب تشيئ هذا الاخر، إلا أن الأخر البشري ليس كأي آخر، ومن تم استحالة معرفته.
أننا إذا كنا نستطيع إقامة معرفة حول الآخر، يمكن أن تكون محايدة، أي يمكن أن تكون موضوعية، وذلك لاستقبال الذات العارفة عن الموضوع المدروس، وهو هنا أشياء العالم التي يمكن أن نضيف إليها" الانسان" كشيء، أي، كجسم محسوس يوجد في مكان. إذا كان هذا بالنسبة للآخر، كشيء فإنما غير ممكن بالنسبة للأخر البشري،أي، الأخر كأنا مخالف للأنا العارفة، لأنا الأخر عندما ينظر إليه كأنا أو كذات،فإن هذه النضرة تقود إلى استحالة تكوين معرفة دقيقة تقوم على الموضوعية والحياد، وذلك لأن الذات الدارسة هنا تدرس ذاتا أخرى مثلها، تسقط عليها ذاتيتها فيتعذر وجود استقلال بين الذات والموضوع، هذا الإستقلال هو الذي هوشرط المعرفة الدقيقة ، وهذا على خلافا ما يذهب إليه بعض علماء الأحياء وعلماء النفس كبرجسيون من خلال المنهج الاستبطاني وفرويد من خلال منهج التحليل النفسي وهي مناهج يؤكد بها أصحابها على إمكانية معرفة الاخر في جوهره أو عمقه (باطنه).
هكذا ينتهي سارتر على التأكيد على استحالة معرفته للأخر بسبب تعذر الموضوعية وتدخل الوعي والإرادة والحرية وهي  عناصر تميز الآخر كأنا أو كذات عن أشياء العالم المادية.
استنتاجات:
ينتهي سارتر إلى أن علاقة الأنا بالآخر، إما أن تكون علاقة فصل، وهنا يمكن للانا ان يكون معرفة عن الأخر تتسم بالحياد، إلا أنها تنظر إلى الأخر كشيء فتهمل أهم مقوماته. وإما أن تكون علاقة اتصال، وهنا ينظر الأنا إلى الأخر كأنا أو كذات، وفي هذه الحالة لا يستطيع الأنا العارف أن يكون محايدا في معرفته للأخر كذات، وهذا ما يقصده سارتر عندما يؤكد على أن معرفة الأخر مستحيلة.

أطروحة غاستون بيرجي :
يعتقد غاستون بيرجي باستحالة معرفة الغير ، فمعرفته غير ممكنة، لأن بينه وبين الأنا جدارا سميكا لا يمكن تجاوزه. هكذا فتجربة الأنا الذاتية معزولة وغير قابلة أن تدرك من طرف الغير. فالأنا يعيش تجربة حميمية مع الذات تحول دون تحقيق أي تواصل بينه وبين الغير. " فلا يمكن للأخرين اختراق وعيي، كما لايمكننى نقل تجربتي الداخلية لهم حتى ولو تمنيت ذلك، لأنني أشعر بالعزلة وأعيش في قلعة منيعة يستعصى على الغير اقتحامها " . وهذه العزلة متبادلة بين الأنا والغير فمثلما أن أبواب عالمي موصدة أمامه، فكذلك أبواب عالمه موصدة أمامي. ويتبين هذا من خلال تجربة الألم مثلا؛ فعندما يتألم الغير ويبكي اواسيه وأشاطره المعاناة، غير انني لا يمكنني أبدا أن أعيش بنفس الكيفية تجربة بكائه الذاتية، لأنها تجربة شخصية خاصة به وحده دون غيره من الناس

هكذا فبالرغم من سعي الإنسان الدؤوب نحو تحقيق التواصل مع الغير، كحاجة ملحة داخله، فإن الغير يظل سجينا في الامه ومنعزلا في ذاته ووحيدا في موته. محكوم عليه بان لا يشبع أبدا رغبته في التواصل، والتي لن يتخلى عنها أبدا.

أطروحة ميرلو بونتي:
هذا التصور عند سارتر الذي يعتقد باستحالة معرفة الغير ، سيتم تجاوزه مع ميرلوبنتى ، لقد حاول ميرلوبنتى فى موقفه الفلسفى الجديد بالقول بإمكانية معرفة الغير عن طريق التواصل معه، ردا على موقف الفلسفة الوجودية مع سارتر الذي يقول باستحالة معرفة الغير ، هذه النظرة التشييئية التي اعتمدها سارتر للإجابة على اشكالية معرفة.
يؤكد ميرلوبنتي على أنه يمكن تجاوز الاستحالة (استحالة معرفة الغير) التي انتهى إليها سارتر، عندما يدخل الأنا والغير في علاقة الاعتراف المتبادل بكل منهما في فرديته ووعيه وحريته، فالمعرفة بين الأنا والآخر تعلق ولا تنعدم أو تغيب عندما ينغلق كل واحد منهما عن الآخر حيث يقول ميرلوبونتي: "إن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع، لكن عندما ينفتحان على بعضهما البعض يحصل التواصل. إن الذات هنا لا تعيش عزلة، وهى ليست غريبة عن الأخرين.

أطروحة جيل دولوز:
يرى جيل دولوز أن الغير ليس كما قال سارتر "الأنا الذى ليس أنا. إن الغير هو بنية ونظام من التفاعلات بين الذوات. فحين تدرك الذات شيئا ما، فإنها لا تستطيع ان تحيط به في كليته إلا من خلال الاخرين؛ فالغير هو الذي يتمم إدراكي للأشياء، وهو الذي- يقول جيل دولوز-" يجسد (مثلا) إمكانية عالم مفزع عندما لا بعد مفزوعا، وعلى العكس إمكانية عالم مطمئن عندما أكون قد أفزعت حقيقة إن الغير بنية مطلقة تتجلى في الممكن الإدراكي، وهي تعبير عن عالم ممكن، ومعرفة الغير يجب أن تكون معرفة بنيوية.
هكذا فمهما يكن من شأن معرفة الغير فإن العلاقة معه اغنى وأعقد من أن تُختزل وتتنوع ، وهو تنوع يمكن اختزاله فى مظهرين أساسيين : هما الصداقة والغرابة.



جميع الحقوق محفوظة © 2013 باك ديالك تمارين دروس امتحانات