المحور الثالث وجهان من وجوه العلاقة مع الغير

المحور الثالث وجهان من وجوه العلاقة مع الغير
الصداقة والغرابة
إن العلاقة التى تنشأ بين الأنا والغير تتخذ عدة مظاهر أهمها : مظهر ان الصداقة والغرابة.
أ- الصداقة : يمكن اعتبار الصداقة من العلاقات الإيجابية التي تربطنا بالآخر، حيث يمكن أن تسمو بالأفراد إلى علاقات من الود تصل إلى التأخي والتضحية والإيثار... فما الذي يجعل الصديق محبوبا ومرغوبا فيه ؟ فما هو الدافع إلى الصداقة ؟ هل هو دافع المنفعة ؟ أم دافع المتعة؟ أم دافع الفضيلة ؟ هل نصادق الصديق لأنه شبيهنا أم لأنه ضدنا ؟ هل نصادقه كغاية في ذاته أمكوسيلة ؟

موقف افلاطون:
يرى أفلاطون أن الصداقة علاقة من المحبة والمودة، لا يمكنها أن توجد بين الشبيه وشبيهه، ولا بين الضد وضده. فالطيب لا يكون صديقا للطيب، ولا يكون الخبيث صديقا للطيب. فلكي تكون هناك صداقة بين الأنا والآخر ، لابد أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل. ولو هيمن الشر على الذات فإنها ستكون في حالة نقص مطلق لا تستطيع معه أن تسمو إلى الخير. ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الاكتفاء الذاتي. فالدافع إلى الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات وكمالها من خلال الأخر .

موقف أرسطو:
إن موقف أرسطو من الصداقة هو أكثر واقعية مقارنة بأفلاطون فهو يرى أن الصداقة صداقات ،صداقة تقوم على المصلحة الذاتية أو المنفعة وأخرى تقوم على المتعة، والثالثة هى الصداقة الحقة التي تقوم على الفضيلة أي أنها تطلب لذاتها، وهذا النوع من الصداقة، والذي يطلب لذاته، ضروري للحياة، فلا أحد من الناس يرغب في الحياة بدون أصدقاء، وحتى لو كان ، في حالة يسر وغنى مادي، فالمال لا يغني عن الصداقة الفاضلة، وعندما يسود هذا النوع من الصداقة بين أفراد المدينة الواحدة يسود هذه المدينة نوع من التالف والانسجام والتكافل والمحبة بين أفرادها، فتختفي أشكال العداوة والتنافر والمواجهة، مما ينتج عنه انتشار العدالة وانتفاء الظلم، ما دام الكل متصادقا، وهو ما يدفع المشرعين إلى الاهتمام بالصداقة بوصفها رابطة تجمع بين الناس في المجتمع أكثر من اهتمامهم بالعدالة نفسها. كل هذا جعل أرسطو يعجب بالصداقة ويمتدحها ويعتبرها رائعة ويساوي بينها وبين الشرف، إذ لا فرق عنده بين الإنسان الشريف والصديق الحق.
ثم يشير أرسطو إلى أن الصداقة كتجربة معيشة لا تقم على الحب بمعناه الأفلاطوني وحده، فهناك على الأقل ثلاثة أنواع من الصداقة، صداقة المنفعة، صداقة المتعة وصداقة الفضيلة. وإذا كان النوعان الأولان من الصداقة متغيرين، يتوقفان على المنفعة والمتعة ويوجدان بوجودهما ويزولان بزوالهما، فهما لا يستحقان اسم الصداقة، لأن الصداقة الحقة هي صداقة الفضيلة، لأنها تقوم على محبة الخير والجمال لذاته، أولا، ثم للأصدقاء ثانيا، لذلك فهي تدوم وتبقى. وفي هذا النوع الثالث من الصداقة تتحقق المنفعة والمتعة أيضاولكن ليس كغايتين، بل، كنتيجتين للصداقة.

صداقة الفضيلة عند أرسطو أبقى وأدوم مقارنة بالصداقة التي تقوم على المتعة و المنفعة، غير أن الحياة المعاصرة وتعقدها وازدياد حاجات الإنسار، وصراع المصالح وتزايد متطلبات الحياة الإنسانية يصيب العلاقة بين الأنا والآخر بنوع من التوتر والعنف والمواجهة والإقصاء، ومن هذه العلاقات الغرابة.

ب- الغرابة:
إذا كان الغريب هو المجهول، غير المألوف، الغامضر ، المختلف، المهمّش، المحارب ، الأجنبي ، المستعمر ، الغام الذ، فان الغرابة، تصبح تبعا لهذا التحديد، شعورا قد يدفع الأنا الفردية أو الجماعية إلى إقصاء الغير أو تدميره أو الشعور بالعدوانية تجاهه. أو على الأقل، مقابلته باللامبالاة والتهميش. إن الدوافع نحو الغريب هي في الغالب، دوافع للحفاظ على الذات، و على الهوية الثقافية والحضارية، والحفاظ على تماسك الجماعة ، وهذا ما يولد توترا وصراعا في العلاقات الإنسانية وهي حقيقة تؤكدها الشواهد التاريخية حول نوعية العلاقة بين الأفراد و الثقافات التي تختلف من حيث طبيعة القيم و المعتقدات. و يمكن الإستدلال على رسوخ النزعة الإقصائية تجاه الغريب بما ميز المجتمعات القديمة من علاقات صراعية قائمة على أساس الدفاع عن الهوية الذاتية مقابل نفي ما يخالفها (الحرود الصليبية ـ الإستعمار الحديث للمجتمعات المستضعفة. وفي الفترة المعاصرة خاصة في الانتروبولوجية الثقافية التي تمثلها كريستيفا الفرنسية من أصل بلغاري أصبح مفهوم الغريب يتأسس على نظرة أخلاقية تتجاوز ثقافة النبذ والاقصاء تجاه الغريب
في هذا السياق يندرج تصور" جوليا كريستيفا "(1941..) القائم علي نقد التصور السائد حول الغريب بوصفه المختلف عن الجماعة، والذي يهدد بالتالي وحدتها وهويتها. فالإعتقاد السائد بأن كل جماعة بشرية تتأسس على هوية خالصة هو اعتقاد وهمى فى نظر "كريستيفا" ، لأن كل جماعة تشتمل على غريبها، و من ثم فإقصاء الغريب بدعوى الحفاظ على وحدة الجماعة هو موقف يقوم على المفارقة و التناقض. فالوحدة المزعومة للجماعة ليست سوى مظهرا يخفي التناقضات الداخلية التي تنكشف لنا عندما ندقق النظر في الإختلافاد و التمزقات التي تجعل كل جماعة تحتوي على ما هو سوي ومنحرف، أو على ما يلانم قيمها وما يناقضه على السواء. وعن ذلك تقول "كريستيفا " : اليس الغريب هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفية لهويتنا..."
ويذكرنا موقف كريستيفا بموقف مشابها عند الأنتروبولوجي الفرنسي المعاصر" كلود ليفي ستراوس " الذي عرف بانتقاده الـشد يد لنزعة الهيمنة والإقصاء التي تميز الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأجنبية. فهو يرى أن كل ثقافة بشرية لها مكانتها وإسهاماتها في الحضارة البشرية عموما. ويعتبر،بالنتيجة، أن التقدم الحاصل الآن في الغرب ليس إنجازا ذاتيا مستقلا عن المجهودات التي بذلتها ثقافات سابقة مهما بدت لنا بدانية. وهكذا فالعلاقة بين الثقافات ، كتعبير عن العلاقة بين الأنا و الغير، يجب أن تقوم على الحوار والإعتراف المتبادل بالإختلاف والتمايز وليس على الإحتواء والهيمنة. لذلك يقول "ليفي ستراوس"
إن الإسهام الحقيقي للثقافات لا يكمن في قائمة اختراعاتها، بل في الفارق المميز الذي تكشف عنه فيما بينها. إن الشعور بالعرفان والتواضع الذي يستطيع كل عضو من أعضاء ثقافة معينة ، بل يجب عليه ، ان يستشعره نحو جميع الثقافات الأخرى،لا يمكن ان يتأسس إلا على الإقتناع التالي : أن الثقافات الأخرى مختلفة عن ثقافته اختلافاتتنوع أشكاله أشد ما يكون التنوع ، وذلك حتى وان كان لا يدرك طبيعة هذا الإختلاف.


جميع الحقوق محفوظة © 2013 باك ديالك تمارين دروس امتحانات